لماذا تبدو فتاوى الجهاد في غزة أقرب إلى الاستعراض | آراء – البوكس نيوز

لماذا تبدو فتاوى الجهاد في غزة أقرب إلى الاستعراض | آراء – البوكس نيوز

البوكس نيوز – اخبار – نتحدث اليوم حول لماذا تبدو فتاوى الجهاد في غزة أقرب إلى الاستعراض | آراء والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول لماذا تبدو فتاوى الجهاد في غزة أقرب إلى الاستعراض | آراء، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.

عالجت – في مقال الأسبوع الماضي – طرفًا من إشكالية مفهوم الجهاد وتطبيقه في ظل الدولة القومية، من خلال تحليل نقدي لفتاوى الجهاد الصادرة في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة. أما هذا المقال فسأخصصه لإثبات أن تعقيدات الدولة القومية وضعت جهاد ما سمي “دول الطوق” في طريق مسدود فجعلته غير ممكن، ومن ثم فإن تلك الفتاوى هي أقرب إلى الاستعراض وتبرئة الذمة، وقد تقود إلى مأزق أكبر؛ لأنها تَجاهلت الفرق بين الحكم والفتوى. فالحكم الفقهي يخاطب المكلف المجرد (غير المعيّن)، بينما تخاطب الفتوى مكلفًا مشخصًا أو معيّنًا في سياق معين تُرتّب على أساسه الواجبات والحقوق.

مشكلة الجهاد اليوم فإنما نشأت من نسْخ أو نقل تلك الأحكام من كتب الفقه والزجّ بها في السياق الحديث من دون اجتهاد في تحويل تلك الأحكام المجردة إلى فتوى تخاطب وقائع معينة وجهة معينة تتولى مسؤولية القيام بالجهاد، كما في حالة الحرب الإسرائيلية الدائرة اليوم على غزة مثلًا

تتسم الأحكام الفقهية الخاصة بالجهاد -على وجه الخصوص- بخصائص عدة أذكر منها خصيصتين:

  • الأولى: أن أحكام الجهاد تتسم – شأن سائر الأحكام- بخَصيصة العموم والاطراد؛ فهي إنما تُقرر الأحكام المعيارية المجردة التي يتوخى الشارع تحقيقها، ويخاطب بها عموم المكلفين بغض النظر عن أحوالهم وسياقاتهم وأزمنتهم.
  • الثانية: أن الجهاد له طبيعة خاصة؛ فهو – على المعنى الاصطلاحي – فعل قتاليّ، وهو أيضًا فعل منظم يتصل بالعلاقة بين ما سمي “دار الإسلام” و”دار الكفر” أو بمجاهدة “العدو” على وجه الخصوص. وقد وسمت هذه الطبيعة الخاصة للفعل الجهادي جانبًا ليس باليسير من أحكام الجهاد المسطورة في المصادر المتكاثرة، سواء في كتب الفقه العام، أم في الكتب المفردة لموضوع الجهاد.

تشتمل الخَصِيصتان السابقتان -في الواقع- على جانبَين: الأول: معياري يقرر “حكم الله” أو الفعل المشروع (سواء كان واجبًا أو غيره)، ويتأسس هذا الجانب على نصوص القرآن والسنة النبوية من جهة، والاجتهاد في معرفة حكم الله من جهة ثانية. أما الجانب الثاني: فهو إجرائي يتصل بتعيين وسائل تطبيق الحكم وما يتعلق به من مسائل تنظيمية وإجرائية (من يقرره؟ وما الإعدادات الواجبة له؟ وكيفية تنظيم الجيش، ومتى يجوز الفرار ومتى يجب الثبات؟ وما الشروط الواجبة لمن يجاهد؟ إلى غير ذلك).

إذا كان الجانب الأول مسألة تأويليّة تقوم على الاستدلال بالنصوص وتأويلها، فإن الجانب الثاني عملي ينطوي على اعتبارات تاريخية وسياسية خاضعة للتطور التاريخي من حيث إن الجانب الإجرائي للجهاد يتصل بالنظم السياسية وتطور الإجراءات والوسائل التي تتصل بالطبيعة الخاصة للجهاد التي بيّنتُها قبل قليل: (وهي أنه فعل قتالي محترف ومنظم).

لا يمكن إنكار أن أحكام الجهاد المسطورة في الكتب هي نتاج فقه ما قبل الدولة الحديثة أو القومية التي باتت جزءًا من النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، سواءٌ كان ذلك متعلقًا بقرار شن الحرب، أم بالإجراءات المتعلقة بممارسة القتال والمعايير التي تحكم تلك الممارسة أو بمفهوم الحرب ووسائل القتال اليوم (بما في ذلك الأسلحة وغيرها).

كنت قد أوضحتُ في كتابي “العنف المستباح” مفاهيمَ الجهاد وتطوراته تاريخيًّا، وكيف أن الجهاد – بمعنى القتال – كان يعمل – تاريخيًّا – ضمن نظام عام يقوم على ثلاثة مستويات:

  •  الأول: أن الجهاد مخصص لقتال العدوّ الكافر المحارب.
  • الثاني: أنه جزءٌ من أعمال الإمامة (أو السلطة).
  • الثالث: أن الجهاد كان مرتبطًا برؤية محدّدة للعالم، حيث ينقسم إلى ما سمي – تاريخيًّا – دار الإسلام ودار الحرب. تضعنا هذه المستويات الثلاثة لنظام الجهاد أمام أربعة مفاهيم مركزية وهي:
  1.  مفهوم “دار الإسلام” التي يتم الدفاع عنها وصيانتها.
  2. مفهوم “الإمام” وشكل السلطة الحاكمة التي تتولى قرار الجهاد وتنظيماته.
  3. مفهوم “العدو” الذي يجب قتاله أو دَفْعه (وهو الكافر المحارب ويُستثنى منه فئات محددة كالأطفال والنساء وغيرهم).
  4. مفهوم القتال وأدواته التي حكمت تصورات الجهاد وتفريعاته في مصادر فقه ما قبل الدولة القومية.

وبِناءً على هذه المقدمة النظرية حول الجهاد، خلَصتُ -في مقال الأسبوع الماضي- إلى أن أحكام الجهاد -كما هي مسطورة في فقه ما قبل الدولة القومية- معلومة ومنضبطة (systematic)، كما أن تفريعات الجهاد الفقهية كانت محكومة بأفق تلك التصورات السابقة على الدولة من جهة، ومنسجمة مع نظام الجهاد ذي المستويات الثلاثة المذكورة، سابقًا، من جهة أخرى.

أما مشكلة الجهاد اليوم فإنما نشأت من نسْخ أو نقل تلك الأحكام من كتب الفقه والزجّ بها في السياق الحديث من دون اجتهاد في تحويل تلك الأحكام المجردة إلى فتوى تخاطب وقائع معينة وجهة معينة تتولى مسؤولية القيام بالجهاد، كما في حالة الحرب الإسرائيلية الدائرة اليوم على غزة مثلًا.

ثم إن هذا الانتقال من الحكم إلى الفتوى، يستوجب علمًا يتلاءم مع تطورات الدولة القومية. فالفتوى في موضوع الجهاد تتطلب ثلاثة علوم:

  • الأول: علم أحكام المسألة المسطورة في الكتب.
  • الثاني: علم الواقعة الجارية التي يُراد تنزيل تلك الأحكام عليها.
  • الثالث: علم بالواقع، وهو غير الواقعة وأشمل منها، فهو يشتمل على العلم بمتغيرات السلطة والحرب وتقنياتها ورؤية العالم الحديث الذي غادر تصورات “دار الإسلام” و”دار الكفر” وباتت الروابط الحاكمة له روابط مفارقة تمامًا، والمسلمون فيه هم الجانب الأضعف.

ومن ثم فالبيانات الصادرة اليوم حول الجهاد لا تسمى فتوى؛ لأنها تقوم على الفروض المجردة من دون رعاية هذه العلوم الثلاثة، ولا تعيّن المخاطَب في واقعة محددة، بل إن ادعاء تقديم فتوى، من دون العلوم الثلاثة السابقة، محفوفٌ بمخاطر عديدة أُجملها في أمرَين مركزيين يخصان تحديدًا من لم يقع عليهم العدوان مباشرة (وخاصة ما سمي في بعض البيانات “دول الطوق”):

  • الأول: تهييج الناس والدفع بهم إلى الإلقاء بأنفسهم إلى التهلكة من دون تحقيق مصلحة مرجوة أو نفع، ومن ثم فصّل الفقهاء في حكم التغرير بالنفوس، فإن كان التغرير يمس نفس الشخص فهذا يجوز باتفاق؛ لأن الجهاد لا ينفك ينطوي على تغرير بالنفس، ولكن الإشكال يقع فيما لو كان التغرير بنفوس الآخرين، وثمة اختلاف بين من يحرّم ذلك، ومن يجوّزه، ولكن هذا التغرير يجب أن يحقق النكاية أو أن يكون مؤثرًا في الدفع.
  • الثاني: تحويل الجهاد إلى أداة (instrumentalizing) يتم استثمارها من قبل قوى أكبر أو كبرى لتحقيق مصالح أطراف أخرى على حساب المجاهدين أنفسهم، كما حصل في أفغانستان في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي لقي دعمًا دوليًّا ومحليًّا، وكما حصل في الحرب على العراق 2003 الذي تم استثماره من قبل دول عدة لخدمة تلك الأنظمة وتحقيق مصالحها على حساب المجاهدين والقضية الكبرى.

مثل هذا الاستثمار من العسر تجنبه اليوم في ظل الدولة القومية وتعقيداتها؛ نظرًا إلى مفهوم القتال اليوم، وفكرة حدود الدولة، وتطور أدوات الحرب ونقلها أو مواد تصنيعها، إلى غير ذلك من المسائل اللوجستية والإجرائية التي تتطلب توافقات وتحكمات عديدة.

لندع جانبًا مفاهيم رؤية العالم ما قبل الدولة القومية، وأدوات الجهاد وتنظيماته، ومفهوم العدو المحارب وغير ذلك، ولنأخذ مثلًا واحدًا هنا للتوضيح، وهو مسألة “إذن الإمام” في الجهاد وَفق تصورات فقه ما قبل الدولة القومية. فالجهاد – في نصوص المذاهب الفقهية – من مسائل الإمامة (السلطة)، وإذنُ الإمام شرطٌ في نوعي الجهاد: جهاد الطلب (الذي يطلب فيه المسلمون دار العدو)، وجهاد الدفع (الذي يدفع فيه المسلمون اعتداء العدو عن أرضهم). ويُستثنى من ذلك ما لو وقعت المواجهة بحيث فاجأ العدو المسلمين، فههنا لا يُطلب إذن أحد، وإنما يجب الدفع بقدر الإمكان كما هو الحال الآن في غزة بالنسبة لأهل غزة.

ولكن الإشكال ينشأ هنا من فتاوى الجهاد التي تخاطب مَن هم في دول الطوق، وهذا هو موضوع هذا المقال الذي لا يتحدث عن أهل غزة. فالجهاد لمن هم في دول الطوق ليس في الإمكان؛ نظرًا لسلطة الدولة القومية من جهة، ولأن مفهوم الحرب وأدواتها يتطلب عُدة وعتادًا وتدريبًا محترفًا من جهة ثانية، ولأن “ولي الأمر” المفترض أن يتولى ترتيبات الجهاد له حسابات أخرى، بل قد يكون جزءًا من ترتيبات سياسية ومصلحية لها أولوياتها المختلفة من جهة ثالثة.

ومن ثَم بات الجهاد – في ظل هذه التعقيدات – غير ممكن أصلًا في دول الطوق بالنسبة للأفراد أو تشكيلات ما دون الدولة. أما بالنسبة للدول نفسها فهي إما لا تملك قرار الحرب، أو لا تستطيعه، أو لا تريده، ويرجع ذلك إلى تقييدات منظومة دولية مرجعيتها مواثيق الأمم المتحدة، وتحكمها موازين القوى في عالم اليوم. ولهذا انحصرت دائرة الفعل في تشكيلات ما دون الدولة، أو ما يسمى التشكيلات غير النظامية؛ لأنها متحررة من تلك المواثيق والقيود التي تفرضها الدولة القومية والتشكيلات والمواثيق الدولية، وههنا شهدنا نمطين من الفعل:

الأول: فعل حركات المقاومة الفلسطينية التي تقاوم احتلالًا وتحصر فعلها في فلسطين حصرًا، والقانون الدولي يعترف بشرعية مقاومة المحتل، أي أن إطار الفعل المقاوم إنما صار ممكنًا في ظل غياب الدولة القومية الفلسطينية، ودعمه الشرعية القانونية لمقاومة المحتل.

النمط الثاني: فعل جماعات العنف أو المنتسبة إلى الجهاد والتي دأبت على قتال أنظمة الدول القومية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، ووُصفت بالإرهاب، وهنا طوّر تنظيم القاعدة تصوره لفكرة جهاد العدو البعيد؛ لأنه هو المتحكم بالمشهد الكلي وهو ولي أمر العدو القريب وفق منظور القاعدة.

وإذا كان كلامنا في هذا المقال والذي قبله، يتناول “جهاد الدفع” في سياق الحرب على غزة لمن هم خارجها، ويتناول الجهاد بالمعنى الاصطلاحي وهو القتال، فإن أنماط الجهاد الأخرى مجالها واسع اليوم، وتندرج تحت ألوان الجهاد بالمال والكلمة أو الجهاد بالفعل بمعناه العام الذي لا ينحصر في القتال فقط، والله الموفق.

وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: لا يمكنك نسخ المقالة