مثقف ضد السلطة | آراء – البوكس نيوز

مثقف ضد السلطة | آراء – البوكس نيوز

البوكس نيوز – اخبار – نتحدث اليوم حول مثقف ضد السلطة | آراء والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول مثقف ضد السلطة | آراء، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.

مثلما أنّ محمد علي باشا 1769 – 1849 م هو مؤسّس دولة الاستبداد الحديثة القائمة في مصر حتى اليوم والغد، كذلك فإنّ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي 1753 – 1825م هو مؤسّس ثقافة الحرية بمعناها الحديث، أي البحث عن الحقيقة، مستهديًا بيقظة الضمير المتجرّد، دون التفات إلى ما قد ينال رضا الحكّام أو يغضبهم، ودون اعتبار لما قد يحظى بإعجاب النخب والعوام أو ما يسخطهم، أسّس الجبرتي سلطة الضمير الحرّ.

الباشا في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر أنجز أمرَين استثنائيَّين: أولهما – استقرار السلطة في بلد لم تعرف فيه السلطة معنى وحقيقة الاستقرار لقرنَين من الزمن، حيث ضعْف العثمانيين وتناحُر المماليك. وثانيهما: مركزية السلطة وبسط القانون الموحّد على كافة التراب الوطني بالقدر الذي أنجزه مينا نارمر 3200 قبل الميلاد.

طبعة خاصة من الطغيان

حكم الباشا مصر – منفردًا – نصف قرن، ولم يحدث في القرون الثلاثة السابقة على ولايته أن حكمها أحدٌ أكثر من سنوات تعدّ على أصابع اليد الواحدة. لكن استقرار السلطة وما رافقه من أمن وأمان، ومركزية السلطة وما رافقها من تحديث وعمران، هذا وذاك تمّ إنجازهما بقدر عالٍ من الطغيان الذي أصبح مكونًا عضويًا أصيلًا في بنية السياسة المصرية حتى اليوم والغد، بحيث أصبح من البداهة ألا تصير حاكمًا حقيقيًا لمصر دون أن تُنتج طبعتك الخاصة من الطغيان، طغيان وظيفي يسمح للحاكم بأمرَين وضع أساسهما محمد علي الباشا: الأمر الأول: أن يبقى الحاكم في السلطة ما دام على قيد الحياة، الأمر الثاني: أن يقبض بيد من حديد على كافة مفاصل ومفاتيح السلطة، ومعنى الأمرَين حكم فردي مطلق، مع عدة فوارق مهمة:

أولها: أن الطغيان في عهد الباشا وذريته- على مدى قرنٍ ونصفٍ – أي من مطلع القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين – هو طغيان ساذج ومبتدئ وضعيف، إذا قُورن بالطغيان اللاحق عليه، الطغيان الأعنف من دولة 23 يوليو 1952 م وحتى اليوم. وثانيهما: أن الباشا أسس جيشًا وطنيًا حديثًا أعفى مصر من الاعتماد على الجند المرتزِقة والعبيد المماليك من البيض كانوا أم السود، هذا الجيش هو الهيكل العظمي أو الشاسيه الحديدي أو التصميم الخرساني الذي قامت عليه واستندت إليه الدولة المصرية والمجتمع المصري والهُوية المصرية الحديثة .

وثالث هذه الفوارق: أن الباشا أسّس الجيش، لكن لم يحكم بالجيش، حكم حكمًا مدنيًا محضًا، الجيش فقط كان للقتال، لم يكن الجيش في عهد الباشا وذريته من بعده مؤسسة حكم ولا صانع قرار سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، بل قرار الحرب والسلم ذاته لم يكن قرار الجيش، فقط كان قرار نخبة الحكم من المدنيين.

رابع هذه الفوارق: أن الجيش في عهد الباشا كان مثل غيره من جيوش القرن التاسع عشر في أوروبا مؤسسة محترفة يديرها المدنيون ولا تدير هي المدنيين.

مثقف متحرر

الجبرتي يختلف عن كل من جاؤوا بعده من رموز الثقافة المصرية في أنه جرّب مذاق الحياة في مناخ الحرية السلبية قبل أن يؤسس محمد علي باشا الاستبداد المطلق، الحرية السلبية التي عاشها الجبرتي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر لم تكن نتاج توازن فعَّال بين صلاحيات الحكم وحقوق المحكومين وحرياتهم، لم تكن نتاج حالة سياسية ناضجة ومستقرّة، لكن كانت نتاج أمرَين: سلطة هشّة غير مستقرة وغير قابضة على أزمّة الأمور، يقابلها طبقة حضرية مصرية في العواصم والبنادر تتشكل من جمهرة واسعة من التجار والعلماء والصوفية وأصحاب الحِرف والمهن، وكلما ازدادت هشاشة السلطة، ازدادت هوامش الحريات والحقوق ومساحات المناورة والحضور السياسي التي تستمتع بها وتستفيد منها الطبقات الحضرية الناشئة.

في مقدمة كتابه: ” عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، حدَّد موقفه وموضعه وموقعه كمثقف مستقل متحرر من أي التزام أو طاعة تجاه أي سلطة سياسية، وهو كذلك – بالبداهة – تحرّر من أي مسعى للمنافع المادية والأدبية من وراء الكتابة، كذلك التحرر من أهواء النفس وميولها مع أو ضد هذا أو ذاك.

كتب يقول: ” ولم أقصد بجمعه – يقصد الكتاب – خدمة ذي جاه كبير، أو طاعة وزير، أو طاعة أمير، ولم أداهن فيه دولةً بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني، أو غرض جسماني، وأنا أستغفر الله من وصفي طريقًا لم أسلكه، وتجارتي برأس مال لم أملكه “.

عنف واستئصال

سجّل الجبرتي تاريخ السنوات الأولى من حكم محمد علي باشا من 1805 – 1822 م، حيث توقف عن الكتابة بعد أن لقي نجله مصرعه، ويُقال إن الباشا ذاته كان وراء مقتله، توقف عن الكتابة 1822 م حتى مات 1825م، وتبقى عظمته في أنه رصد حجم العنف الذي تأسست عليه الدولة الحديثة، وهو العنف الكامن في طبعها وتحت جلدها وعمق تكوينها، وهو العنف الذي تستدعيه الدولة الحديثة كلما احتاجت إليه واستلزمه أمر إعادة تثبيتها من جديد، إذا تعرّضت لهزة أو تعثرت في كبوة، هو العنف الذي ميّز وما زال يميز علاقاتها برعاياها أو مواطنيها.

في كتابه: ” مصر في القرن الثامن عشر : دراسات في تاريخ الجبرتي “، يذكر محمود الشرقاوي 1909 – 1971م أنه ” مما لا شك فيه، أنّ الباشا كان يعرف ما سجّله الجبرتي عن سيئاته ومساوئ حكمه، وأن الباشا جزع من ذلك، واستاء منه أكبر الاستياء، وقد أراد الباشا أن يرد على الجبرتي، من طريق غير مباشر، فطلب من شيخ الأزهر الشيخ محمد العروسي الذي تولى المشيخة بعد الشيخ الشنواني – هذا تمييز مهم؛ لأن والده كان شيخًا للأزهر، ثم نجله كذلك جاء شيخًا للأزهر، أي الجَد والأب والحفيد تولوا المشيخة – طلب محمد علي باشا من العروسي الأوسط أن يكلف أحد كبار العلماء بتأليف كتاب يعارض ما سجّله الجبرتي، فوقع التكليف على الشيخ خليل بن أحمد الرجبي الشافعي، الذي وضع كتابًا ملأه مدائح في محمد علي باشا والإشادة بذكره، وتوجد من هذا الكتاب نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقْم 585 تصنيف تاريخ”.

بعد ذلك، وبالخبرة التي كسبها من طول المكث في الحكم، تعرف الباشا على وسائل البروباغندا الحديثة، واجتذب عشرات من الصحفيين والمؤرّخين والرحّالة والجواسيس الغربيين الذين نسجوا – بأمره – سردية عبقريته كمصلح للشرق على خطى الغرب أو نابليون الشرق، كما كان يطيب له أن يوصف، وهؤلاء نسجوا السردية كمثال وليست كواقع، كتجربة نجاح عبقرية في المطلق، لا كتجربة تأسست على العنف والاستئصال وإرهاق المصريين في تحقيق مطامح فردية.

التحرر من قيود السلطة

عاش الجبرتي عمره بين عامي 1753 – 1825 م، النصف الثاني من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر، وهي فترة اتسمت بدرجة عالية من عدم الاستقرار، وصراعات السلطة في داخل نادي الحكم المملوكي المغلق، واستهزاء المماليك الجدد بالسلطنة العثمانية في إسطنبول، حيث نجحت مغامرة علي بك الكبير 1728 – 1773 م في الاستقلال بمصر والشام والحجاز واليمن والبحر الأحمر، وحيث تجرأ الفرنسيون لأول مرة منذ الحملة الصليبية السابعة 1250م بقيادة لويس التاسع 1214 – 1270م على غزو الشرق الإسلامي من مصر في حملة نابليون 1798م، وحيث دخلت مصر في حزام الصراعات الأوروبية بين الفرنسيين والإنجليز على الاستعمار والسيطرة على تجارة العالم غير الأوروبي مَن في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.

وحيث باتت السلطنة العثمانية رجل أوروبا المريض، وحيث تفتَّتت السلطة في مصر وشهدت عقودًا عدة من السيولة والاضطراب كثرت فيها مظالم الحكام رغم ضعفهم، وكثر فيها احتجاج الشعب بصورة غير مسبوقة وغير ملحوقة، حقبة طويلة من الاحتجاجات الشعبية لم يوقفها غير تمكن الباشا – بمساعدة أوروبا – من تأسيس سلطة مستبدة تملك أدوات السيطرة الحديثة، وفي مقدمتها العنف المنظم الممنهج المشروع، عنف الدولة الوطنية المقدسة.

امتاز الجبرتي بأنه وُلد في أعلى بيوت الأرستقراطية المصرية، والده الشيخ 1698 – 1774م كان من ألمع علماء الشرق سواء في مصر أو عموم الديار الإسلامية، جمع بين علوم الدين والطب والجبر والحساب والهندسة والموازين، بيته قِبلة لطلاب العلم يتوافدون عليه من كل الجهات بما في ذلك أوروبا، مكتبته من كبرى مكتبات الشرق، علاقاته واسعة بالأمراء المماليك في مصر والسلاطين العثمانيين في إسطنبول، ترك لولده ثروة ضخمة كانت سندًا له في التحرر من ربقة الحكام، فلم يبذل الجبرتي أيَّ جهد في التقرب من الحكام قبل أو بعد مجيء محمد علي باشا.

ظل متحررًا من أي قيد يربطه بالسلطة، واحتفظ – مع محمد علي باشا بالذات – بخصومة سياسية وفكرية حافظ عليها حتى مات، ولم يشارك صديقه الصدوق الشيخ حسن العطار 1766 – 1835م في التقرب من الباشا، حيث ألّف العطار كتابًا تقرب به للباشا وأهداه إليه وتولى مشيخة الأزهر، علمًا أنّ العطار جدير بالمشيخة لعلمه ونبوغه حتى لو لم يتقرب للحاكم.

ضرب الرموز الوطنية

كذلك، كان موقف الجبرتي، عندما انقلبت نخبة المشايخ ضد نقيب الأشراف عمر أفندي الأسيوطي الشهير في التاريخ بـ “عمر مكرم” 1750 – 1822 م تورّع الجبرتي أن يكون جزءًا من اللعبة الخسيسة، كانت الإطاحة بعمر مكرم بداية مشوار ممنهج من تخليع أسنان الطبقات الحضرية: العلماء والتجار والأشراف والصوفية وأهل الحِرف، الذين اكتسبوا خبرات النضال السياسي في العقود الأخيرة بين القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، كانت الإطاحة بعمر مكرم تأسيسًا لواحدة من أخطر قواعد الطغيان في الدولة الحديثة : ضرب الرموز والقوى الشعبية والنخب بعضها ببعض عبر الترغيب والترهيب، ثم القضاء عليها جميعًا، هذه القاعدة معمول بها حتى اليوم والغد، وهي ضمان الحكَّام للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ثم هي ضمان لهم من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من السلطة المطلقة.

الوحيد الذي وقف موقف الجبرتي من الباشا هو صديقه المقرب الشيخ أحمد الطحطاوي، وهو تركي الأصل، كان شيخًا لفقهاء الحنفية، وقد استدعوه للتآمر على عمر مكرم، لكنه خاف الله وتورع، فكاد له المشايخ عند الباشا حتى عزلوه عن مشيخة الحنفية، ثم أعاده الباشا للمشيخة في وقت لاحق.

الجبرتي سبق منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني في رصد المظالم الاجتماعيَّة باعتبارها انتهاكًا لحقوق الإنسان. كما سبق المدارس التاريخية الحديثة في التركيز على التاريخ الاجتماعي قبل التركيز على التاريخ السياسي. هذه وتلك، هي جوهر الروح النضالية التي اتّصف بها الجبرتي كمثقف وكاتب ومؤرخ.

وهذا مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.

وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: لا يمكنك نسخ المقالة