رائحة الموت.. في قالب سردي بديع

رائحة الموت.. في قالب سردي بديع

البوكس نيوز – رياضة – نتحدث اليوم حول رائحة الموت.. في قالب سردي بديع والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول رائحة الموت.. في قالب سردي بديع، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.

بقلم: بوسلهام عميمر

“موت بالتقسيط” مجموعة قصصية، ضمن سلسة أعمال الكاتبة المتعددة ذ. رشيدة القدميري المتوزعة بين الشعر والقصة والزجل والكتابة للأطفال. فلها أكثر من ديوان شعري، ولها أكثر من مجموعة قصصية، فضلا عن انخراطها في العديد من الأنشطة الثقافية بمجموعة من المدن المغربية، والمشاركة في العديد من الملتقيات وطنيا وإقليميا ودوليا، علما فتخصصها علمي في البيولوجيا، بعيد كل البعد عن الأدب قراءة وكتابة، لكن عشقها للأدب وشغفها به منذ صغرها، كان له كلمة الفصل.

من عنوانها “موت بالتقسيط” عتبتها الرئيسية، يتوسع مجال أفق انتظارات القارئ. كدأبها عناوينها لوحدها تحتاج لوقفات قرائية ودراسات تحليلية. “الفنون جنون” كما يقال بمعنى من المعاني. أول ما يتبادر إلى الذهن، كيف جمعت الكاتبة ما لا يمكن أن يجمع على الأقل ظاهريا. التقسيط من عالم البيع والشراء.

إذ يبيع التاجر بضاعته بالتقسيط أو يرد مدين دينه بالتقسيط، فما علاقة هذه العملية التجارية الصرفة بالموت، هذه الظاهرة المحيرة، إلى اليوم رغم تطور العلوم، يبقى لغزها جاثم على صدر كل المخلوقات؟

هو ما نلفيه بفنية عالية في ثنايا قصص هذه المجموعة الإحدى عشر. فعلى امتداد صفحاتها الخمسة والسبعين، ظلت الكاتبة تحلق بنا باقتدار الكتاب الكبار، لنعيش مع شخوصها لحظاتهم الأليمة، لحظات جراحاتهم العميقة، شروخ يتسع خرقها مع الأيام على راقعها، مما يجعلهم تحت وطأة الموت بالتقسيط أو ما يعرف بالموت البطيء.

تقول في ذات حوار عن كتاباتها “كلها يعبرها مجرى حلم وأغلب نصوصي يخترقها هذا النهر في صبر، يماهي تجارب المعيش اليومي للإنسان مع كثافة الإيحاء.

نصوصي استثمار لنوعية الحلم، أمام واقع رتيب في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، علما إنه كلما حاول الكاتب أن يحلم، سيحس أن مجموعة من النوافذ تفتح أمامه.

فالكتابة يجب أن لا تقيم متاريس بين الواقع والحلم”.

الكاتبة وضعت أصبعها على الجرح، بتناولها مجموعة من القضايا الشائكة، تئن تحت وطأتها فئات مجتمعية عريضة خاصة من النساء، والإشكال كلها تقريبا معاناة وصراعات أفضيتها ذوات المبتليات بها، عادة بسبب أخطاء في التقدير أو سوء تدبير، يصعب على القانون رصدها والتدخل فيها لمعالجتها بما يلزم من فصول وإجراءات قانونية، مما جعل الكاتبة في إهدائها تتنبه إلى هذه المسألة بإهداء منجزها هذا “لكل من لم يفقد إنسانيته وسط دوامة الوجع والخيبات والخسارات”. فكم عدد من لهم القدرة على مقاومة الموت البطيء، والمحافظة على إنسانيته وتحدي إكراهاته بأقل الخسائر؟

أبطال قصصها قد أزعم أنهم جميعهم ليسوا من ورق. إنهم يعيشون بين ظهرانينا، هل كان على الكاتبة أن تنبه بالإشارة التقليدية، بأن أي تطابق بين شخوص قصصها وأحداثها، مع الواقع ليس سوى محض صدفة؟ فقصة زهرة مثلا في القصة 11بعنوان “موت صغير” ص73، لم تحسب حسابها جيدا، استغلت غياب الأب بسبب الموت، وغياب الأم بسبب الكفاح من أجلها، لتنطلق بكل ما أوتيت من جمال وأنوثة، “تركض تسابق ظلالها غير آبهة بقوانين وتقاليد وعادات مجتمعها” 73 وجدها أحد أبناء جيرانها كان يترأس جمعية تهتم بحقوق المرأة، أكلة سائغة، آمنت بشعاراته إلى أن استيقظت يوما “ذاب الحب واختفى الهمس، وحلت محل كل ذلك ابتسامة ساخرة باردة كالثلج” 75، فاستوعبت الدرس لكن بعد فوات الأوان، وأدركت أن كل الشعارات كانت كذبة كبيرة “وأن ما كان يقصده بشعاراته هو حرية الوصول إليها” انتهى بها المطاف بعد موت أمها، تنتقل من حي إلى حي ومن مقهى الى آخر تتسول ما تسد به رمقها أو نصف سيجارة تدخنها.

فكم من زهرة عاشت هذه المأساة أو أقسى منها، قطفت على بلاهة منها قبل أن تستفيق من غفوتها لتجد نفسها قاعا صفصفا، لا تصلح لشيء في ظل تقاليد قاسية لا ترحم، ولا تقبل منها عذرا. ومما زاد جرحها عمقا هذا “المناضل”، لما عزم على الزواج لجأ إلى إحدى بنات حيه، لم تكن تعتب باب المنزل سوى رفقة أمها أو أحد إخوانها، وحتى دراستها كان لأبيها موقف منها، إذ منعها من متابعتها بدعوى أن المرأة للزواج وتفريخ الأطفال وتربيتهم. لتختم الكاتبة القصة بما يمكن مناقشته والتفصيل فيه بقولها على لسان بطلة القصة زهرة “من كان يظن أن جرعة زائدة من الحرية تفعل بي كل هذا وأكثر؟” 78.

فالكاتبة لما ترصد هذه الظاهرة لم ترصدها من فراغ. فربيع هذا الانتهازي في ثوب مناضل منه الآلاف، يتخذون النضال مطية لتحقيق مصالحهم الشخصية، وتفريغ شحناتهم المكبوتة. و زهرة الضحية منها الآلاف ممن تنطلي عليهم الخدعة، فيندفعن مغمضات الأعين وراء السراب، لا يستفقن إلا وقد وغلت الفؤوس في رؤوسهن. هي دعوة من الكاتبة أن تحسب كل فتاة على الخصوص خطواتها جيدا، قبل الإقدام على أية مغامرة. فالمجتمع لا يرحم. يتساهل مع كل أخطاء الذكور مهما بلغت سفاهتها، لكن مع المرأة يحاسبها حساب العدو لعدوه. هي دعوة منها لندير الأفكار في أذهاننا مرات ومرات، قبل أن نقدم على ترجمتها إلى أفعال.

قصص من صميم الواقع توفقت الكاتبة إلى أبعد الحدود، لتقدمها لنا على طبق من فن عال. في الواقع كل قصة تستحق وقفة خاصة بها، لإيفائها حقها من الدراسة. فالكاتب ليس المطلوب منه أن يقدم أجوبة ويقترح حلولا، بقدر ما يثير أسئلة تستفز العقول لتفكر وتحلل وتناقش. قضايا كالجمرات الحارقة.

فقصة جميلة مثلا سيدة أعمال بمشاريع ضخمة وأرصدة بنكية هامة، قدمت بها مجموعتها القصصية ربما هي الأطول بتسع صفحات، تختمها بقولها مؤنبة نفسها، “ويحي ماذا فعلت بحياتي؟ وكيف اعتقدت أني قادرة على الاستغناء عن نصفي الآخر بهذه السهولة؟” 17.

كانت منها هذه الخلاصة المؤسفة، لاستغراقها منذ صغرها في الدراسة وبعدها انغماسها الكلي في سوق العمل. فحققت كل أمنياتها المادية لدرجة “أصبح سقف مؤهلات الرجل الذي يمكن أن يشاركها حياتها أعلى وأعلى” 10.

وماذا بعد كل هذا الثراء، خاصة وأنها كما تقول “ألغت قلبها وكل أحاسيسها ونسيت أنها أنثى.. وماذا بعد؟ سؤال بدأ يؤرقها، وأصبحت عقارب الساعة تلسع لحظاتها المملة بعلامة استفهامه”. قصة تطرح أكثر من علامة استفهام، أهمها سؤال التوفيق بين الدراسة والتميز فيها و التفوق المهني مع النجاح الأسري. إلى أي حد يمكن تحقيق هذا التوفيق بين المجالين دون أن يؤثر مجال على آخر حتى لا تكون مثل جميلة.

فبعدما كان يتمناها كل شاب، أصبحت تستجدي الكهول، ممن لا همّ لهم سوى ثروتها ومركزها الاجتماعي، ومع ذلك لما تنازلت وقبلت بأحدهم، خانها مع موظفة صغيرة السن بشركتها؟ إنه البناء الدرامي في قمته. بتدرج وبشكل تصاعدي بنت قصتها إلى نهايتها المأساوية، لما حققت كل أحلامها المادية، وانتبهت إلى نفسها اجتماعيا لتجدها صفر اليدين. وحيدة تعاني الأمرين خاصة لما صادفت إحدى صديقات دراستها بسيطات الحال، سعيدة مع زوجها وأبنائها.

قصة ثالثة يتحقق فيها الموت بالتقسيط بشكل بارز لا لبس فيه، قصة حنان. سنين وتضحياتها تتضاعف لا تتوانى لحظة في خدمة زوجها بإخلاص قل نظيره. وكانت “كلما زاد رصيده في البنك ضاعفت هي من تضحياتها، واقتصدت في مصاريف البيت” 18.

فهل قوبل حنانها بحنان زوجها وتضحياتها بتقديره لها لما تأكد من عقمها؟ للأسف ببرودة دم عزم على طلاقها نزولا عند شرط فيمن قرر الزواج منها، وكأن شيئا لم يكن. وبدون أن يرف له جفن باغثها قائلا “أمنيتي أن أرزق بابن يحمل اسمي، وهذا حق لن تنكريه علي، فأنت إنسانة مؤمنة عاقلة” 20 علما فهي فلم تكن تمانع في زواجه. الكاتبة أنثى تدرك جيدا حال هذه المرأة وطبيعتها. إنها بطلة قصتها تعرف من أي معدن هي عقبت قائلة ص23.

“كرامتها وكبرياء الأنثى فيها يمنعانها من أن تتشبث برجل باعها بأبخس الأثمان”. أنانية في أبشع تجلياتها. ألم يحكم هذا الرجل على هذه المرأة بالموت بالتقسيط، وقد قابل سنوات تضحياتها بالجحود؟ سؤال آخر وإن لم تطرحه الكاتبة، عن المرأة الثانية. كيف سوغت لها نفسها أن تشترط طلاق الأولى دون مراعاة حالها ولا كلفت نفسها لتفكر في مصيرها، لا لذنب سوى أنها عقيم لا تنجب.

ألم تفكر لو كانت هي مكانها، فهل تستسيغ هذا الموقف؟ وإن كان ما أثر فيها حقيقة وترك في نفسها شرخا عميقا، أكيد لن يزيد مع الأيام سوى عمقا على درب الموت البطيء هو لما تنكر لكل شيء وصدمها بقوله أن لا شيء يربطه بها.

و الكاتبة تعرض مجموعة من النماذج النسائية تعرضن للموت بالتقسيط، لم يفتها أن توجه سهام قلمها إلى صنف من النساء، يرضعن لأبنائهم السلبية والخنوع والخضوع.

كانت لا تفتأ تحذره من الاقتراب من السياسة ومن أي شخص فيه رائحتها، إلى أن نال أعلى شهادة ليلتحق بجحافل المعطلين المقهورين، فلم يجد غير أن ينادي بأعلى صوته والغمة تجثم على صدره «تعالي فقط يا حبيبتي. تعالي يا أمي. قيديني هنا قرب قبرك حتى لا أضرم النار في نفسي” 31. كان ذلك من الكاتبة لتؤكد أن السياسة كالماء والهواء، إما أن تمارسها من بابها الواسع، فتنخرط في التغيير نحو الأفضل، وإما تمارس عليك من قبل محترفيها لا هم لهم غير تسمين أرصدتهم البنكية و إجادتهم لفن التزحلق على كل الحبال لتحقيق مصالحهم الشخصية، وإلى الجحيم مصالح المواطنين ممن على أكتافهم يتسلقون لتولي مناصب المسؤولية تبيض ذهبا.

صراع الأجيال كان حاضرا بقوة في هذه المجموعة القصصية، من خلال قصة “لعنة الماضي”، تجلى في موقف كل من البنت حليمة وأمها من خيانة زوجها مع إحدى جاراتها، لطالما حذرها حتى من إلقاء التحية عليها بدعوى أنها فتاة الشارع وعاهرة، إلى أن ضبطته متلبسا بخيانته معها في فراشها.

فكان الحوار الناري مع أمها بين موقفها المتشدد للتبليغ عنه وبين موقف أمها الرافض جملة وتفصيلا صارخة، “ماذا تقولين أيتها المجنونة هل تريدين فضحنا أمام الناس” فسردت عليها قصتها مع أبيها وأنها صبرت وضحت من أجلها ومن أجل إخوتها. لكن موقف حليمة كان على النقيض، إذ كان لها رأي آخر فواجهتها برباطة جأش قائلة: لهذا السبب تحديدا أريد الاتصال بالشرطة، وفورا.. لا أريد لابنتي أن تشفق علي.. عن أي فخر تتحدثين.. كنت وما زلت أكره سلبيتك وضعفك وصمتك أمام خيانات أبي المتكررة.. كنت أمقت صمتك وأشفق عليك” 49.

ويبقى السؤال معلقا، حول من يعانق الصواب موقفه. اليوم وقد كبر الأبناء بمن فيهم حليمة في حضن أب لنفترض أنه كان مستهترا، وبين رأي حليمة وقد قر قرارها أن تبلغ الشرطة وتجعل حدا لعلاقتها بزوجها وتتحمل بمفردها مسؤولية ابنتها. ترى ألم يكن من خيار ثان قبل اللجوء إلى آخر الدواء الكي؟

وعلى هذا المنوال سارت الكاتبة، تسرد حكايات شخوص قصصها، تاركة بياضات للقارئ يحلل ويناقش ليصطف بجانب هذا أو يضاده. فعرجت على ما باتت تشكله وسائل التواصل الاجتماعية من آثار على استقرار العلاقات الزوجية بالخصوص. بتقنيات كتابية عالية تشتبك فيها الكوميديا بالدراما، لما صورت أحدهم يقدم نفسه لإحداهن متنكرا على أنه أعزب و كان على تواصل دائم معها وهي نفس الشيء.

تنكر في تنكر فوق تنكره. حتى إنه “في حال تعذر التواصل يترك ورودا ووعودا وأشواقا وقبلات قبل أن يغلق حسابه” 51. يقضيان الليالي الطوال مع بعضهما على الخاص. بعد سنة ها هما على موعد بإحدى المقاهي ينتظرها بوردة حمراء. ماذا تكتشف على مقربة منه من حيث لا يراها؟ لم يكن غير زوج أختها. كانت تعتبره بمثابة الأخ الأكبر. “توقفت عن السير في اتجاه المقهى وألف سؤال يتزاحم للانفجار برأسها بعد أن قتلت الصدمة كل إحساس بداخلها” 53.

أسئلة عديدة يمكن أن تتناسل انطلاقا من هذا الحدث. وإن كانت القصة من بنات خيال الكاتبة، ففي الواقع بالآلاف نظيرا لها، كانت نتائجها كارثية على ضحاياها أفرادا وأسرا.

المفروض أن تواكب هذه المتغيرات الاجتماعية بسبب هذه الفورة التكنلوجية دراسات أنثروبولوجية ودراسات نفسية ودراسات تربوية. فآثارها السلبية بالوتيرة التي تسير عليها تتضاعف أكثر فأكثر. ماذا حدث لهذا الرجل مثلا المتزن الصارم الغاضب دوما حتى أيام العيد؟ “كيف لهذا الوحش الذي لا يبتسم حتى في وجه أبنائه، ولا يكلم زوجته إلا للضرورة القصوى، أن يتحول إلى ذاك الحمل الوديع على الخاص في الفايس معها؟ أسئلة خنقت روحها وألجمت تفكيرها” 53.

من أين له هذه القدرة ليتقمص شخصيتين متناقضتين لهذه الدرجة؟ هذا نموذج واحد وإلا فأمثاله بالملايين ذكورا وإناثا. إنها ظاهرة اجتماعية تهم الجنسين معا. فكم يحتاج هذا الانفصام، من دراسات لفهمه، ومن تم محاولة البحث في سبل علاجه؟

وتبقى الكتابة الإبداعية، مهما برع الكاتب (ة) في اقتناص مواضيع منجزه وانتقاء أشدها إثارة؛ شعرا كان أو سردا، و مهما شحنها بالإشارات والدلالات لمن يهمه الأمر، ومهما كانت قوة رسائله وخطورتها، لن تكون ذات قيمة إذا خلت من ماء الإبداع؛ لغة شاعرية سلسة انسيابية، وتشبيهات معبرة، و مجازات واستعارات، وبالجملة صور فنية منحوتة بجمالية عالية.

إنها مقومات الأدب الرفيع. فضلا عن أسس فن القصة من شخوص وأحداث وحبكة وعقدة ومعمار بنائها الفني. إنها الفيصل بين الإبداع الأدبي وأي كلام آخر. الكاتبة رشيدة القدميري، وبحكم تمكنها من ناصية قول الشعر، تغني المكتبة المغربية والعربية بمجموعة من الدواوين الشعرية غاية في العمق والجمال، فقد أتحفتنا في مجموعتها القصصية هاته بجملة من اللوحات التعبيرية الشاعرية، على الرغم من مأساوية مضامين قصصها الإحدى عشر، لا بد أن نقتبس من حديقتها بعض أزهارها على سبيل التمثيل. لنتابع معها هذه التشبيهات العميقة تقول، في سياق حديثها عن المرأة التي ضحت بكل شيء من أجل زوجها حتى عملها استقالت منه بطلبه، وفي الأخير يرميها بثلاث كلمات “لا شيء يربطنا” لو مزجت بماء البحر للوثته “كوردة سلبت من عبيرها.. كهمس ابتلعه الضجيج..

كمساء هادئ غابت عنه شموع العشاق” 26، وفي سياق آخر تقول في وصف حال بئيسة محاصرة بكل أنواع اليأس والملل والشقاوة والتعب، لا أمل في شروق شمسها “كمن يحمل طقس يومه بكفه، لا يهمه إن كان الجو ماطرا أو مشمسا، فسماؤه طول السنة ملبدة بغيوم الفقر، وحرارة أمله تحت الصفر بدرجات” 28. تشبيهات بديعة في الحقيقة. لنستمتع معها بهذا التشبيه في سياق تتبعها لسيرة عمار”ركض هاربا يبحث عن مكان آمن لا يسمع فيه صوت المدافع والرصاص، ولا يرى فيه الأشلاء تتساقط كالمطر” 63.

يرحم الله الجاحظ لما أكد في نظريته على تخير وسهولة المخرج وكثرة الماء وجودة السبك وغيره من إقامة الوزن بخصوص الشعر. فالبناء الفني هو الأساس في أي عمل أدبي. كم من فكرة بسيطة يجعلها البناء الفني أكثر بهاء ونضارة وإشراقا، تجعل القارئ يقبل عليها بشغف وشوق.

تعبيرات كثيرات تعج بها قصص هذه المجموعة. إنها أكثر من أن نحيط بها جمعاء في هذه الدراسة، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. لنتأمل قولها هذا يجمع بين جمال القول وعمق الفكرة في ص23 ” وقفت وسط الغرفة مصدومة فارغة من كل شيء، إلا من قناعة واحدة وهي أن العقم الحقيقي هو عقم الإحساس لا غير. لا شيء يربطنا..

كلمات هزت كيانها وزعزعت روحها من الجذور ليموت الكلام في حلقها قبل أن يولد. ولنتأمل قولها وهي تصف حالة قارئة الفنجان “كالببغاء كثيرة الكلام، لدرجة خلط الجمل ببعضها حتى ليخيل إليك أنها لم تدرس علامات الترقيم في كل مراحل تعليمها” 57.

ولنتابع معها حياة عمار في قصة “ذبول الربيع” وهي تصف حاله وقد انقلب رأسا على عقب. فبعدما كان فتى الأحلام تتمناه كل فتاة عريسا لها، ها هو اليوم لا يجد غير الأرض مرقدا والإسفلت فراشا “يتوسل برهة راحة وسويعة نوم هادئة”، تقول في ص 62 “تخضبت اللحظة بلون الرماد، والحصيلة حفنة دخان عارية ومسافات من الشجن بطول الوجع الساكن بأعماق عمار”. وإن لم تشر الكاتبة تصريحا لحال الفلسطينيين، وما يتعرضون له من دمار وشنار، فقد أشارت إليها في شخص “عمار” بدلالته الفلسطينية.

نماذج كثيرة على جمال قولها وهي تعبر عن مواقف أكثر سوداوية. تقول في ص 34 “تغزل من خيباتها رداء صمت لقصتها”. و قولها في ص66 في قصة “بقايا لا تكفي” “تحضن فنجان قهوتها بيديها وكأنها تتوسم في حرارته قدرة على إذابة بعض من صقيع حزن سكنها”.

ليس هذا وحسب فالمجموعة حافلة بالتأملات الحياتية، تنم عن خبرة كبيرة وسعة معرفة وعمق تجربة. لنتأمل معها وهي تكشف في قصة “نزيف الشمس” عما اعترى الفتاة التي وجدت نفسها في علاقة فايسبوكية مع زوج أختها” تقول “عدم إعلان حرب لا يعني بتاتا أننا في فترة سلم مطلق.. قد تبدو الأشياء هادئة حد الموت.. لكن القلوب براكين اشتد غليانها.. اعلمي بنيتي أن بعض الحب كخفافيش الظلام يخاف الشمس ويخشى النور” 55.

 * كاتب وناقد من المغرب

وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: لا يمكنك نسخ المقالة